مال أتابك ناحية الشمعة وأخذ يقص الأطراف المتفحمة من الفتيلة بواسطة المقراض، وهنا خيم على المكان شعور ملحوظ بالغربة وعدم الارتياح، فقد كان الحوار متقطعًا ولا يدور في الاتجاه المراد له، وكان الصمت الطويل هو الرد الغالب على كل كلمة يقولها أحدهم. بدا أن رحمت كان يحاول الخروج من هذا الموقف المحرج بألا يدع الحوار ينقطع.
– قل لي يا أخي، كيف وجدت مرغلان؟ هل أعجبتك؟
تردد أتابك قليلًا، وشعر بالحرج وهو يرد على سؤال رحمت:
– ماذا عساي أن أقول؟ على الأرجح، لقد لاقت المدينة قبولًا في نفسي. فمرغلان هي المدينة الأولى في تركستان في صناعة النسيج.
أخذ حامد ورحمت ينظران إلى بعضهما مندهشين من هذا الرد المبهم. فبادر أتابك الذي التقط هذه النظرات إلى التوضيح مازحًا: منذ أول يوم لي في مدينتكم مرغلان وهي تثقل عليّ، ذلك أنه لم يكن لدي أصدقاء أو معارف هنا، فكنت أشعر أنني غريب فيها. لكن من الآن فصاعدًا تغيرت الحال تمامًا لأني وجدت فيكما صديقين عزيزين حينما قررتما تشريفي بالزيارة.
فقال رحمت: عذرًا، أخي العزيز، فلقد علمت بأمر مجيئك إلى مرغلان اليوم فقط من والدي، وإلا ما كنت أدعك تشعر بالملل والضجر.
– حقًا؟
– بكل تأكيد- أجاب رحمت– فأبي حينما يكون في طشقند يتوجه إلى منزلكم مباشرة، وأنت هنا تنزل في خان للمسافرين والقوافل، لذا يحق لنا أن نعتب عليك في هذا.
فقال أتابك موافقًا رأيه: أجل، لك الحق في ذلك، لكن مبرري في ذلك أنه، أولًا، بدا لي من الصعب أن أستدل على منزلكم، بالإضافة إلى أن رجال القافلة قد استقروا على هذا المكان للإقامة فيه.
– على كل حال، هذا ليس عذرًا.
بسط حسن علي طاولة الطعام وأحضر إبريق الماء للاغتسال، ثم تلت ذلك المراسم التقليدية للضيافة.
سأل حامد وهو يغمس قطعة من الخبز في العسل الأسود: وكم تبلغ من العمر أيها البِك؟
ما كادت شفتا أتابك تتحرك بالكلام حتى رد حسن علي الذي كان واقفًا يصب الشاي: أمد الله في عمر سيدي؛ في هذا العام- عام القرد- سيتم سيدي الأربعة والعشرين عامًا.
فسأله أتابك في دهشة: حقًا، هل صرت في الرابعة والعشرين من عمري؟ في الحقيقة أنا نفسي لم أكن أعرف كم عمري.
– حقًا، سيدي، فأنت في الرابعة والعشرين من العمر.
وهنا سأله حامد مجددًا: وهل أنت متزوج؟
– لا.
رأى حسن علي الذي لم يكن يرضيه هذا الرد المقتضب بـ "لا"، أنه من الأفضل أن يوضح الأمر أكثر، فقال: على الرغم من أنه كانت هناك بعض المحاولات لإيجاد عروس مناسبة لسيدي، فإنه لم يكن مقدرًا، على ما يبدو، أن نجدها، بعد ذلك بدأ البِك يعارض فكرة الزواج مهما كان الأمر. وحتى هذه اللحظة ما زلنا نعجز عن إقامة حفل زفافه، لكن سيدي المبجل حاجي يوسف قد حزم أمره بأن يزوجه فور عودته من رحلته هذه.
– إن الزواج في رأيي هو أكثر الأمور حساسية في هذه الحياة، قال رحمت، ثم التفت إلى أتابك وأكمل: وأهم شيء بعد الزواج هو أن تكون طباع زوجتك متوافقة مع طباعك، وإلا فلن يكون في الحياة شيء أصعب من هذا الأمر.
تلقى أتابك كلمات رحمت بترحيب صادق وقال: ليس هناك أدنى شك في صحة كلامك، لكن ينبغي أن نضيف إلى ذلك أنه إذا كان على الزوجة أن تتوافق مع طباع زوجها، فعلى الزوج أيضًا أن يكون مناسبًا لزوجته.
احتج حامد على هذا الكلام قائلًا: في رأيي، ليس هذا بالأمر المهم؛ أن تكون مناسبًا لزوجتك أم لا، فكلمة "زوج" وحدها تكفي لأي زوجة، ولكن ما قاله ابن اختي صحيح في أن الزوجة يجب أن تكون مناسبة متوافقة مع زوجها.
نظر رحمت مبتسمًا إلى أتابك الذي نظر أيضًا إلى حامد بطرف عينيه نظرة تتخللها ابتسامة ساخرة. فبادر رحمت بقوله: إن أمر الزواج في أيدي والدينا، فإذا كانت العروس لا تناسب ابنهما فالشيء الحاسم في هذا الأمر هو أن تكون مناسبة لوالديه. هنا لا يحق للشاب الذي يتزوج والفتاة التي ستتزوج أن يعبرا عن رغباتهما، مع أن مثل هذه العادة لا يصح اعتبارها من الأمور المقبولة شرعًا. فأنا على سبيل المثال تزوجت فتاة تعجب والديَّ كثيرًا، لكن، بالرغم من أنها تناسبهما، فإنها لا توافق طباعي، وربما، كما قلت أنت، قد لا أكون مناسبًا لزوجتي؛ كلامك صحيح يا أخي.
استمع أتابك إلى رحمت باهتمام بالغ وتعاطف، ثم نظر إلى حامد ليرى كيف سيكون رده على هذا الكلام. التفت حامد إلى رحمت وقال: اسمع، يا ابن أختي، صحيح أنك تزوجت حسب رغبة والديك، لكن لا مجال هنا أن تغضب أو تستاء منهما. فإذا كانت زوجتك غير مناسبة لروحك فاتخذ لنفسك زوجة أخرى مناسبة، وليكن لديك زوجتان، وإذا كانت الثانية لا تناسبك فتزوج بالثالثة. لكن ليس على الزوج أن ينزعج ويغرق في الأحزان بسبب عدم توافق الطباع بينه وبين زوجته.
نظر رحمت إلى أتابك مبتسمًا ثم أجاب خاله: حسنًا، وما الفائدة إذًا من زيادة عدد الزوجات ومن ثم المزيد من العذاب والمعاناة معهن؟ في رأيي، أن تعيش حياتك مع امرأة واحدة تحبها وتحبك هو أفضل شيء كما أنه أكثر عقلانية. فها أنت على سبيل المثال لديك زوجتان لكنك لا تحظى بلحظة سلام واحدة في منزلك، بل دائمًا في عراك وشجار.
فضحك حامد وقال: بالنسبة إلى شاب مثلك فإن زوجة واحدة ستكون أكثر من اللازم. ثم ماذا تعني بقولك "المعاناة من كثرة الزوجات"؟ طالما أن سوطك يقطر دمًا حتى لو كن مئة، يمكنك أن تستمتع بحياتك دون مشكلات. فحتى يومنا هذا أعيش مع زوجتين، ولا أشعر أني اكتفيت من الفضائح والخلافات بينهما، لكني لا أستطيع القول بأنني لا أطيق فكرة الزواج بثالثة.
– ليس هناك من يضاهيك في هذا المجال، يا خالي.
نظر حامد في زهو وفخر إلى أتابك الذي اكتفى بالابتسام ردًا على كلامه. خرج حسن علي لطهي الأرز البخاري، في حين قدم أتابك الشاي للضيوف. أنهت كلمات حامد الأخيرة خلافهم. يبدو أن ثلاثتهم قد استغرقوا في أفكارهم الخاصة. بعد هُنيهة من الوقت، التفت رحمت إلى خاله: هل سمعت أن ميرزا كريم قد زوج ابنته؟
لسبب ما تسبب هذا السؤال في حالة ارتباك لدى حامد، فأجاب على مضض:
– لا أعلم شيئًا عن ذلك. أعتقد أنه لم يفعل بعد.
ثم التفت رحمت إلى أتابك رغبة منه في إشراكه في الحديث، وقال: لدينا في مرغلان فتاة.. يا الله من جمالها! يبدو لي أنه لا يوجد من يضاهيها جمالًا في هذه الأنحاء.
تجهم وجه حامد وقطب حاجبيه ونظر في عبوس إلى ابن اخته، فتابع رحمت دون أن يلحظ حالة خاله: في مدينتنا تاجر يدعى ميرزا كريم باي، وهو والد الفتاة التي أتحدث عنها. أظن أنك تعرف السيد ميرزا كريم، كان مسئولًا لمدة من الزمن عن الشئون المالية لخانية طشقند.
– كلا، لا أعرفه.
أصبح وجه حامد أكثر عبوسًا وتجهمًا، وبدا قلقه وتوتره جليين ملحوظين، في حين تابع رحمت:
– فناؤه هو المبنى الواقع عند زاوية محل الأحذية. إنه شخص مرموق جدًا، وله صلة بالعديد من أشراف طشقند ووجهائها، ربما كان يعرف والدك من بينهم.
أجاب أتابك: كل شيء ممكن. ولسبب ما ارتجف رغمًا عنه، كان واضحًا من وجهه أنه قلق، وبالرغم من هذا لم يلحظ رحمت أي تغير على وجهه، في حين لاحظ حامد فورة انفعالات أتابك. أترى كان ذلك ناتجًا عن الحديث الذي يدور بينهم، أم أنه مجرد حادث عرضي، لا نعلم بالطبع. ساد الصمت مجددًا بينهم لهُنيهة من الوقت.
– متى ستنزل ضيفًا عندنا يا أخي؟ – أخرج سؤال رحمت أتابك من حالة تفكيره: إن شاء الله.
فأصر رحمت: لا، يا أخي العزيز، عليك أن تقرر يومًا، هذا ما جئنا إلى هنا من أجله.
– لكن لماذا أزعجكم؟
– لا يوجد ما يزعجنا في هذا الأمر. إذا سمحت لنا، فسوف ننقلك من هذا الخان إلى منزلنا. وإلى أن يحدث ذلك اختر يومًا محددًا تنزل فيه ضيفًا عزيزًا علينا؛ يريد أبي حقًا التحدث إليك، وأن يسمع منك كيف تسير الأمور في طشقند.
أجاب أتابك: لا أرغب في الانتقال من هذا النزل، لكنني مستعد لزيارة والدك في أي وقت.
– شكرًا لك أخي العزيز، هلا حددت لنا يوم زيارتك من فضلك؟
– كما تعلم، ليس لدي ما يشغلني في المساء، ولكن إذا كان يناسبكم وقت آخر فلن يكون لدي خيار سوى الموافقة عليه.
قال رحمت: عافاك الله- دعني أسألك شيئًا آخر: هل من الممكن أن ندعو أشخاصًا غرباء لا تعرفهم إلى المجلس، ألا تمانع؟ أريد أن أؤكد أن هؤلاء أشخاص مقربون من دائرتنا، ومن بينهم، على سبيل المثال، ميرزا كريم قوتيدار(7).
شعر أتابك بالحرج مرة أخرى، لكنه حاول عدم إظهار ذلك، فأجاب: الأمر سيان بالنسبة لي.
وبعد تناول الأرز البخاري ودعه الضيوف ثم غادروا.
2. شاب جدير بابنة الخان
بينما كان أتابك يُحَيّي الضيوف الغرباء في منزل ضياء شاهيجي أخذ يتفحصهم بعناية. وعندما لاحظ ذلك صاحب المنزل بادر إلى تقديمهم إليه: أظنك لا تعرف هؤلاء السادة؛ هذا أحد أصدقاء والدك المقربين، ميرزا كريم قوتيدار، وهذا أكرم حاجي أحد تجار أنديجان(8).
كان ميرزا كريم يبدو في الخامسة والأربعين أو الخمسين من العمر، رجل وسيم ذو حاجبين سوداوين وعينين داكنتين، ومظهر جميل وأنيق، في حين بدا أكرم حاجي أكبر منه بعشر سنوات. تفحص أتابك ميرزا كريم مرة أخرى بعناية وقال:
– كم أنا سعيد أن تعرفت على أصدقاء والدي المقربين، شكرًا جزيلًا لك. ثم نظر إلى أكرم حاجي وميرزا كريم وواصل الكلام بأدب جم: لقد عهد إليّ أبي أن أبلغ تحياته الحارة إلى أصدقائه الأعزاء مثلكما.
– شكرًا لك، حفظك الله.
كان من بين الحضور الذين اجتمعوا في منزل ضياء شاهيجي على شرف أتابك حامد ورحمت وحسن علي بالإضافة إلى الضيفين اللذين قُدِّما للتو. بعد تقديم الضيوف بدأت عيون أتابك وقوتيدار تتلاقى بشكل متكرر. وما إن همَّ قوتيدار بفتح فمه ليسأل أتابك شيئًا ما، حتى بدأ أكرم حاجي وضياء شاهيجي حوارًا مطولًا لا ينقطع. ولكن عندما تلاقت عينا أتابك وميرزا كريم مرة أخرى سأله قوتيدار بابتسامة:
– أيها البِك، هل تتذكرني؟
فأجاب أتابك، وهو ينظر باهتمام واحترام إلى قوتيدار:
– لا يا عمي.
– كم عمرك؟
– أنا في عامي الرابع والعشرين.
قال قوتيدار وقد بدا كما لو أنه يحسب حسبة في ذهنه:
– بالطبع لا يمكنك تذكري. فعندما كنت أباشر أعمالي التجارية في طشقند، كان عمرك خمس أو ست سنوات تقريبًا. يبدو وكأن ذلك حدث منذ وقت قريب، وكأنني كنت أمس ضيفًا في منزلكم. في الواقع، مرت خمسة عشر أو عشرون عامًا منذ ذلك الحين. وها أنت الآن شاب يافع، حقًا إن الحياة تمر بسرعة كالسهم المارق.
– هل زرت منزلنا حقًا؟
– بل نزلت ضيفًا عندكم أكثر من مرة. أجاب قوتيدار، حينها كان جدك لا يزال على قيد الحياة.
في تلك اللحظة تدخل حسن علي الذي كان يجلس على مسافة منهما، ويستمع إلى حديثهما، فقال:
– حينما كان عمك يتردد على منزلنا، كنت لا تزال طفلًا صغيرًا، وقد اعتاد أيضًا أن يأخذك معه إلى الخان.
ابتسم أتابك في حرج ونظر إلى قوتيدار: آسف حقًا، لكن لا يمكنني تذكر ذلك.
كان قوتيدار على وشك أن يقول شيئًا آخر، لكن لم يمهله أكرم حاجي وسأل: وماذا يعمل والدك المبجل الآن؟
– إنه مستشار والي طشقند.
– وهل لا يزال عزيز بك واليًا على طشقند إلى اليوم؟
– أجل، بالضبط.
– أي بك؟ بل قل عزيز الراقص، صاح حامد فجأة وهو ينظر إلى أكرم حاجي ويبتسم ابتسامة ساخرة. منذ وقت قريب كان هذا "العزيز" يرقص أمام الضيوف لتسليتهم في احتفالات مسلمان قل الأعرج.
قال ذلك ثم جال بعينيه في فخر بين الحضور كأنما قال شيئًا غاية في الأهمية لا يعرفه الآخرون. وعلى ما يبدو أن كلمات حامد غير الموزونة قد بدت للحاضرين خالية من اللباقة، فأخذوا ينظرون إلى بعضهم في حالة من الذهول، أعقبها صمت تام لم يكسره سوى سؤال أكرم حاجي:
– هل صحيح ما يقال عن أن الوالي مفرط في الشدة؟
أجاب أتابك: لقد أصبت كبد الحقيقة؛ فلقد سئم الناس من قسوة عزيز بك.
لم يذهل رد أتابك أكرم حاجي فحسب، بل صدم الضيوف الآخرين أيضًا. فلقد بدا الاعتراف باستبداد راعي والده مثيرًا للدهشة والاستغراب بالفعل. لقد اكتسب عزيز بك سمعة بصفته واحدًا من أكثر طغاة خانات تركستان قسوة واستبدادًا، حتى إن قسوته على أهل طشقند قد صارت منذ زمن بعيد حديث الناس في فرغانة(9)، ينسجون حولها الأساطير والحكايات. لكن سؤال أكرم حاجي الموجه لابن أقرب الناس لعزيز بك لم يكن من قبيل الصدفة، بل كان مقصودًا؛ لاختبار أتابك. وما سمعه أكرم حاجي أثار ذهوله أكثر، ولم يفته أن يبدي اهتمامًا لمعرفة السبب وراء موقف أتابك: لكن بما أن والدك مستشار عزيز بك، فلماذا لا يوجه الوالي أحيانًا على الأقل إلى الطريق الصحيح؟
ابتسم أتابك وقال: أستميحك عذرًا، أيها المبجل، فعلى ما يبدو أنه ليس لديك فكرة واضحة بما يكفي عن منصب والدي. إن القيام بدور المستشار عندما يتخذ حكامنا قرارًا ليس مهمة مستحيلة. فعلى الرغم من أن والدي هو مستشار عزيز بك، بالإضافة إلى أنه يعد أقرب المستشارين إليه، فإنه يستمع إلى نصيحة والدي فقط في الأمور التي ليس لها أهمية خاصة. دعني أضرب لك مثالًا حدث مؤخرًا: في أحد ولائم الجمعة الخاصة أخذ أحد الرجال في مدح عزيز بك، وهنا اعترض شخص آخر: "ولماذا تبالغ في مدحه؟ عزيز بك ليس إلا مجرد غلام يرقص أمام أسياده". وصلت هذه الكلمات على الفور إلى مسامع عزيز بك عن طريق مخبر سري كان في مكان قريب. في اليوم التالي، استدعى عزيز بك هذين الرجلين إليه. أما الذي مدحه فقد حصل على منصب رفيع، في حين حكم على الثاني بالإعدام. كان والدي حاضرًا عندما حكم على الرجل بالإعدام، وعندما توجه إلى عزيز بك يسأله أي ذنب اقترفه ذلك الرجل كي يستحق الإعدام، كان رد عزيز بك أن صرخ في وجه السياف يأمره: "أخرجه في الحال". وعندما كرر والدي سؤاله ما كان من عزيز بك إلا أن "مازحه" قائلًا: ربما يريد الحاج أن يفتديه بنفسه؟"
– ولماذا لا يتوجه الناس بشكوى مكتوبة إلى الخان؟
– هل تعرف كم عدد الشكاوى التي أرسلت؟ – سأله أتابك. – لقد أرسلنا مع هؤلاء القوم الذين ظلمهم واضطهدهم عزيز بك عشر شكاوى. ما الذي يمكن أن نتوقعه من هذه الشكاوى إذا كان مستشار الخان نفسه يفوق عزيز بك في القسوة والاستبداد؟ ومع ذلك، بدأ عزيز بك في الآونة الأخيرة يتجاهل علنًا الأوامر والمراسيم الصادرة من قوقند(10). إن شكوانا كلها تستند إلى الأمل بأن "يظهر الطاعة لقوقند"، على الرغم من أن قوقند ربما تغض الطرف عنها. مهما كان الأمر، فقد سئم سكان طشقند من قسوة عزيز بك، ولا يعرفون إلى من يلجأون ليمد لهم يد العون.
هكذا بات موقف حاجي يوسف بك وآراؤه واضحة الآن للجميع، وخاصة لأكرم حاجي، ولهذا لم يعد أحد إلى مناقشة هذا الموضوع بعد ذلك، وتحول الحديث إلى شيء آخر.
كانت مأدبة الطعام قد أعدت على قدر كبير من العناية والاحترام للضيف العزيز. ومن وقت لآخر كان ضياء شاهيجي وابنه رحمت يتحدثان مع الحضور ويعرضان عليهم تذوق أطباق جديدة تلهب شهيتهم، ومع هذا لم ينجح ذلك في أن يجعل أتابك يخرج من حالة التأمل العميقة. ترى، فيمَ كان يفكر؟ من الصعب تخمين ذلك. لكن هذا هو ما كان يجذب الانتباه؛ فبينما كان غارقًا في أفكاره كانت عيناه تقع دون قصد على قوتيدار الذي كان يجلس في مواجهته، وإذا حدث أن نظر الأخير في عينيه، كان أتابك يحول ناظريه إلى أطباق الطعام. كانت حالة أتابك غير ملحوظة للضيوف الآخرين ما عدا حامد الذي كان يسترق النظر إليه ويراقبه باهتمام.
– أيها البك، أي المدن زرتها في تجارتك؟ سأله قوتيدار.
– لقد زرت العديد من مدننا، – أجابه أتابك. – حتى إنني زرت مدينة الروس سيماي(11).
– حقًا؟ هل زرت سيماي حقًا؟ – سأله ضياء شاهيجي في دهشة.
– كان ذلك في العام الماضي، لكن رحلتنا تلك تزامنت مع فترة غير مناسبة تمامًا، ولهذا السبب كان علينا تحمل العديد من المصاعب.
– يبدو أنك تاجر حقيقي، – قال قوتيدار بإعجاب، – لقد بلغنا من العمر ما بلغنا ولم نر مدننا الكبيرة، أما أنت فقد وصلت حتى سيماي الروسية.
فقال أكرم حاجي: كما يقولون إن في الحركة بركة.
في تلك الأيام، كان عدد قليل من تجار تركستان يمارسون التجارة في المدن الروسية، ولهذا فإن أتابك، الذي قد زار مدنًا خارجية قد أثار انطباعًا جيدًا لدى الحاضرين وحظي باحترامهم له. كان قوتيدار وضياء شاهيجي قد سمعا حكايات كثيرة عن الروس، وأرادا أن يتبينا حقيقة ذلك من أتابك حول ما رآه في سيماي.
فقال أتابك: قبل ذهابي إلى سيماي كنت أعتقد أن الأنظمة الحكومية جميعها في كل مكان تشبه أنظمتنا، لكن رحلتي إلى سيماي غيرت فكرتي حول هذا الأمر تمامًا، حتى إنني الآن أصبحت أرى الأشياء كلها من منظور مختلف. عليّ أن أعترف أن مبادئ أنظمتنا وأسسها مقارنة بالأنظمة الإدارية لدى الروس تبدو بائسة للغاية. لا أستطيع أن أتخيل كيف سيكون حالنا إذا استمرت حالة الفوضى والارتباك الحالية في مؤسساتنا. عندما كنت في سيماي تمنيت لو أن لي أجنحة أطير بها إلى بلادي، وأهبط مباشرة إلى قصر الخان وأحكي له بالتفصيل عن الإجراءات التشريعية كلها للحكومة الروسية. كم حلمت بأن الخان يستمع إلي ويستجيب لطلباتي، ويصدر مرسومًا بأن نسترشد بكل صرامة بالنظام المتبع لدى الروس، ومن ثم سيصير شعبنا في غضون شهر واحد على مستوى الروس نفسه، ولكن، للأسف، عندما عدت إلى دياري تيقنت أن أفكاري وتطلعاتي تلك ليست سوى أحلام سعيدة غير قابلة للتحقيق. فلا أحد يريد أن يستمع إلي، حتى إن كان هناك من يستمع، فسيغرقني على الفور في اليأس: "هل سيستمع إليك أحد من الخانات؟ وهل سيقوم أحد من الولاة بتنفيذ الأوامر؟" في البداية لم أرغب في الاستماع إلى هذه الكلمات، لكنني أدركت لاحقًا أنهم كانوا على حق. في الواقع، هل يستجيب الموتى إذا نودي "حي على الفلاح"؟
كان الجميع ينصتون باهتمام كبير إلى أتابك، وقد أدهشتهم أفكاره التي لم يسمع بها أحد من قبل. حتى رجال تركستان الحاليين الذين لم يكن يراودهم حتى في أحلامهم أن يهتموا لأمر الناس، لم يستطيعوا أن يبقوا غير مبالين أمام هذه الكلمات المثيرة التي تنبع من قلب أتابك النقي الصادق.
قال قوتيدار: لو كان لدينا حاكم مثل أمير عمر خان(12)، لكنا تفوقنا على الروس.
وأضاف ضياء شاهيجي: نحن المسئولون عن الوضع الحالي المؤسف.
رد أكرم حاجي مؤيدًا: هذا صحيح.
أراد حامد ألا يتخلف عن الآخرين فأضاف: إن الله تعالى أعطى الكافرين المال والثروة.
فقال أتابك: في رأيي إن تفوق الروس يكمن في وحدتهم وتضامنهم. إن صراعنا الداخلي الذي يبدو بلا نهاية هو السبب في تخلفنا يومًا بعد يوم. بعبارة أخرى، تبدو لي أفكار عمي ضياء شاهيجي المبجل صحيحة في البعض منها. لا يوجد بيننا أشخاص صالحون يدركون بوضوح خطورة الوضع الراهن، بل على العكس من ذلك، هناك من يفسد السلام ويخلق الصراعات، وبسببهم تتغلغل جذور الفتنة، وتنتشر في كل مكان، وتتشابك وتدفع الناس إلى مستنقع مليء بالكوارث.
ومثال على هذا ذلك العداء القائم بين قاره تشوبان والقبجاق(13). فكّروا معي، ما الفائدة والمنفعة التي قد تعود علينا نحن وعلى إخواننا القبجاق من جراء هذا الصراع؟ لا يفيد منها إلا المحرضون الذين يزرعون بذور الكراهية بين الشعبين. على سبيل المثال، هل يمكن اعتبار "مسلمان قل" شخصًا نزيها وغير متحيز؟ وماذا جلب إلى شعبه سوى إراقة الدماء؟ بسبب دوافعه وضغائنه الشخصية قام، بناءً على حجج واهية، بقتل صهره "شير علي خان"(14)، وأعدم نفسًا بريئة "مراد خان"، وتخلص من والي طشقند "سليم ساق بك"، الذي كان وديعًا مسالمًا مثل الحمل، ووضع طاغية مثل عزيز بك على رأس السلطة مكانه. ثم بعد ذلك، وبعد أن نصب نفسه الوزير الأول، أعلن ذلك الفتى الأرعن "خدايار" خانًا، وجثم هو فوق رقاب العباد. أما كان خيرًا لو أن "مسلمان قل" سعى إلى هدف أسمى، وقضى على الطغاة ومنح الناس حياة طيبة هادئة، أكان أحد ليعارض ذلك؟ لكنه بدلًا من ذلك رفع إلى السلطة عزيز بك المستبد الجائر الذي لم ير مثله في تاريخ طشقند كله.
من الصعب أن أصدق أن وحشًا مثل "مسلمان قل" قد أنجبته أم من بني البشر، وحتى يُقضى على هؤلاء الطغاة الذين استولوا على السلطة لمصالحهم الخاصة ويضطهدون الشعب بلا رحمة، فلا مفر لنا ولا مخرج إلا بالتخلص منهم، وأن نستبدل بهم رجالًا يسعون إلى العدل والخير.
واصل أتابك شرح أفكاره المبتكرة، التي لم يسمع بها أحد من قبل، وقد جلس الحضور جميعهم يحدقون فيه في دهشة فاغرين أفواههم. في الواقع كانت آراء أتابك حول أسباب الصراعات المستمرة وعواقبها صحيحة. وقد بدا أن استنتاجاته ساعدت الحاضرين على استيضاح مشاعرهم حول هذا الأمر عندما عبر علنًا عما يدور في خواطرهم ولم يجرؤوا يومًا على التعبير عنه بصوت عالٍ.
عندما خرج أتابك من المضيفة وذهب ليتوضأ قبل صلاة المغرب، أخذ ضياء شاهيجي يتبادل نظرات الرضا مع ضيوفه، ثم قال: إنه بالفعل ابن أبيه.
فأردف أكرم حاجي: بارك الله في عمره، إنه الأكثر ذكاءً ورجاحة عقل بين شبابنا. لو كان الأمر بيدي لجعلته خانًا. هل تلقى تعليمًا؟
فأجاب حسن علي الذي كان قلبه يفيض بالفرح من مدح سيده المحبب: لقد كان واحدًا من أفضل الطلاب في مدرسة "بيكلار بيغي"(15)، لكن والده أخرجه منها منذ ثلاث سنوات ليشتغل بالتجارة.
وقال قوتيدار: نعم، لقد مَنّ الله على هذا الفتى بنعم كثيرة.
أشاد الحاضرون جميعهم بأتابك، إلا حامد الذي ظل صامتًا ولم يشاركهم في ذلك، وبدا منزعجًا إلى حد ما، بل تغيرت تعابير وجهه تمامًا عندما سأل قوتيدار حسن علي إذا كان البك متزوجًا أم لا. فأخبره حسن علي أنه حتى الآن لم يجد الفتاة التي تناسبه، الشيء الذي رد عليه حامد بسرعة بقوله: يبدو أن سيدك لا ترضيه إلا ابنة خان– ثم بسخرية تخللت كلماته– فهذا النوع من الرجال بعد الزواج يظل طوال حياته يعذب زوجته.
لم يترك حسن علي هذه السخرية الغامضة دون رد، وأجاب مبتسمًا: لا أعرف إذا كان يريد الزواج بابنة الخان أم لا، لكنه ليس أقل من ذلك، وأعتقد أنه إذا كان لا يقبل أن يوجه لي، وأنا عبد مملوك اشتراه مقابل نقود، كلمة مهينة، فلا أظنه، طبعًا، يسيء إلى فتاة حرة، لا سيما وإن كانت زوجته. أعتقد أنه بعيد كل البعد عن ذلك النوع من الرجال الذين يتصرفون كالبهائم فيضربون زوجاتهم، ويتزوجون أكثر من واحدة، ويحولون حياتهن إلى جحيم، أخي الملا حامد.
كان تلميح حسن علي واضحًا للغاية، حيث إنه كان قد سمع من فم حامد نفسه أنه يضرب زوجاته أحيانًا بسوط من الجلد. ولهذا فإن العبارة الأخيرة لحسن علي جعلت حامد يشعر بالخزي أمام الجميع ولم يتفوه بكلمة واحدة. ألقى ضياء شاهيجي إلى صهره نظرة كلها عتاب واضح، وكأنه يقول له: "ألا يكفي؟"، ثم التفت إلى حسن علي وقال:
– نعتذر منك أيها الشيخ الكبير، إن ابننا حامد إنما جاء إلى هذه الدنيا فقط لكي يقول مثل هذه الأشياء المسيئة.
أما قوتيدار فقد بادر أيضًا إلى تأييد حسن علي: أنت على حق، أيها الأب. إن أتابك جدير حقًا بابنة خان.
لم يكن بوسع حامد إلا أن يظل صامتًا، لكنه ابتسم ابتسامة خبيثة ونظر إلى حسن علي.
بعد تناول الأرز البخاري كان حامد أول من غادر ثم بدأ الآخرون في المغادرة إلى منازلهم. كان طريق أتابك وقوتيدار واحدًا، ولهذا غادرا معًا. عندما اقترب قوتيدار من منزله أخذ يودع أتابك قائلًا: ننتظر تشريفك منزلنا غدًا بكل تأكيد. اتفقنا؟
– بكل تأكيد يا عمي.
– ها هي بوابة الخان هناك. ربما يجدر بك أن تبيت عندنا الليلة؟ ما رأيك؟
– شكرًا جزيلا لك، أتركك في صحة وعافية.
عندما ودعوا بعضهما وهموا بمغادرة المكان، خرج من زقاق مظلم قريب منهم شخص مدثر في ردائه وانطلق في الاتجاه الذي أتى منه أتابك وحسن علي.
3. البِك العاشق
Бесплатно
Установите приложение, чтобы читать эту книгу бесплатно
О проекте
О подписке